الهوية الثقافية في السياسة الخارجية الامريكية المعاصرة

الهوية الثقافية في السياسة الخارجية الامريكية المعاصرة

  • 87
  • نوفمبر 07, 2021
من المعروف ان الهوية الثقافية واحدة من اهم
المفاهيم ومفردات علم النفس وعلم الاجتماع لكن نرى ان علماء السياسة ادركوا في وقت
مبكر ضرورة الاهتمام بالهوية الثقافية عند دراسة السياسة والحكم فاذا كان مفهوم
الهوية الثقافية حديث النشأ في الحقل الاكاديمي السياسي فان جذوره البعيدة تمتد
الى الفلاسفة الاغريق الذين كانوا يطرحون مفهوم الفضيلة المدنية بمعنى التمسك
بالقيم. وتعرف القوة الثقافية على انها الكل المعقد الذي يمثل المعارف والعقائد
والفن والاخلاق والقانون والعادات والتقاليد كما تعرف انها الكل المركب الذي ينتجه
الانسان ويشتمل على عناصر مادية وغير مادية والتي تميز فئة عن اخرى وتمثل الهوية
الثقافية لها والتي تميزها عن غيرها اذ تتكون القوة الثقافية من مقدار ما يملكه
المجتمع من عادات وتقاليد ومعارف وهوية خاصة تتيح للمجتمع خصائص معينة تجعله يختلف
عن المجتمعات الاخرى . وقد جرى العمل منذ دخول مفهوم الهوية الثقافية الى حقل
السياسة لتسيس ذلك المفهوم وجعله واحد من ركائز التي يرتكز عليها صانع القرار
السياسي في اتخاذ القرار ورسم الاهداف والاولويات وتحديد الاستراتيجية القومية
الشاملة . وقد تطرق الكثير من المفكرين لمفهوم الهوية بشكل عام والهوية الثقافية
على وجه الخصوص لكن هنا نكتفي بما تطرق له اثنين من اهم المفكرين المعاصرين
والمتناقضين في طروحاتهم التي تخص الثقافية والهوية الثقافية وتاثيرها على مستقبل
النظام الدولي بصورة عامة ومستقبل الهيمنة الامريكية خاصتا وتحديد سلوكيات
العلاقات الدولية وهي نظرية صدام الحضارات للمفكر الامريكي صمؤيل هنتنغتون ونظرية
القوة الناعمة للمفكر والسياسي الامريكي جوزيف س ناي التي تزامنا في الطرح
واختلفتا في المفهوم وتحدتا في الهدف وهو الحفاظ على الهيمنة الامريكية .قبل
التطرق لتلك النظريتين لابد ان نوضح بشكل موجز مفهوم الهوية الثقافية والهوية
السياسية .


·  الهوية الثقافية
 يرتبط
مفهوم الهوية الثقافية بمجتمع معين ومحدد لذا تعرف بأنها عبارة عن ثقافة ما او
هوية لمجموعة ما او شخص ما، نظرأ لامكانية تاثير هذا الشخص بهوية المجموعة
الثقافية او ثقافته التي ينتمي اليها. لذا تعرف الهوية الثقافية على انها مجموعة
من الملامح والاشكال الثقافية الاساسية الثابتة اضافة لهذا فهي تعني التناسق بين
العقل والهوية عن طريق نبذ التعصب والتطرف العرقي والطائفي في شتى صوره واشكاله
وتعرف كذلك على انها مركب متجانس من التصورات والذكريات والرموز والقيم والابداعات
والتعبيرات والتطلعات لشخص ما او مجموعة ما وهذه المجموعة تشكل امة بهويتها
وحضارتها التي تختلف من مكان لاخر في العالم . فالهوية الثقافية هي المعبر الاساسي
عن الخصوصية التاريخية لمجموعة ما او امة ما لذا الهوية الثقافية عبارة عن كيان
يمكن ان يتطور ولا يمكن تحديدها كمعنى اذ انها يمكن ان تسير في اتجاه الانكماش
والتقليص او اتجاه الانتشار وتمتاز هذه الهوية بغناها الناتج عن تجارب اصحابها وكم
المعانات التي مروا بها ونتاجاتهم وانتصاراتهم حيث يعرفها افلاطون يقول :- ان
الهوية للكائنات هي ما يبقى كما هو رغم كل المتغيرات وهذه القدرة على البقاء فوق
حواجز الزمن وترهلات المكان وعواقب الايام هي التي تمنح الهوية قوة وجودية لذا
يتضح ان الاقليات او كل الفئات المضطهدة والتي لا تحصل على حقوقها بصوة كاملة هي
اكثر تمسكا  بهويتها من غيرها.


·      الهوية السياسية
ان
مسألة وضع تعريف محدد للهوية السياسية لايزال محل جدل بين المفكرين فمنهم من يقول
بوجود مفهوم محدد للهوية السياسية لكل فرد ويدافع عن فكرته بالقول بوجود نوعين من
الهويات السياسية الاولى يسميها بالنخبوية والثانية بالعامة . اما الهويات
السياسية النخبوية فهي هويات هشة يؤمن بها نخبة لا يمثلون الا جزء من المجتمعات
وذلك عائد الى كون الواقع السياسي والاجتماعي لا يؤسس لهذه الهوية ولا يدفع
لوجودها وانتشارها اذ تحتاج الى دافع ذاتي لدى المتبني لها لذا مثلا البعض يؤمن
بالهوية القومية السورية بينما الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والاحداث
الاخيرة لا تؤسس لمثل هذه الهوية .

اما
الهويات العامة: فهي هويات واسعة الانتشار بين مختلف الطبقات والشرائح وذلك لكونها
هويات واقعية يفرضها ويمليها الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي على المنتمين
لها .ومثال ذلك الهوية السياسية التي تتمتع بها الاقليات ضمن الدول التي تكون
منقوصة اي انها تتمتع بحقوق سياسية واقتصادية بدرجة اقل مما هو متاح لسائر مواطني
الدولة ممن هو خارج تلك الاقليات او الفئات فينتج عن هذا الواقع تمسك جميع افراد
هذه الفئة اضطرارا او اختيارا مهما كان عددهم بهويتهم التي يضطهدون وتنتقص حقوقهم
بسببها مثل هذه الهويات تكون قوية ومتينة ويصعب محوها ودمجها ضمن هويات اخرى . اما
الرأي الاخر فينتقد تلك التقسيمات ويميل الى رفض الهوية السياسية وتقسيماتها
ويستند الى القول : (انا انسان وفقط ) او انا انتمي الى الانسانية فقط دون اي
تفصيل او تفريع وهذه رغم عمق معناها وجمال صورتها لكنها تمثل حالة من الضياع
والضبابية وهي محاولة للهروب من تحمل المسؤولية ومن التحديات التي تواجه الهوية
السياسية.

الهوية الثقافية بين نظرية صدام الحضارات
ونظرية القوة الناعمة
 هناك
اتجاه يذهب نحو عولمة القيم والثقافة عبر وسائل يقف في طليعتها الاعلام
والمعلوماتية بوصفها ادوات عصرية افرزتها طبيعة المرحلة فكانت ولازالت القوة
الثقافية جزء من عملية واسعة التاثير في قيم المجتمعات الاخرى لتحقيق ما يطمح له
صانع القرار السياسي من اهداف .ومن ثم فان الثقافة هي قوة مؤثرة وفعالة على الصعيد
الاجتماعي والسياسي والمستويات كافة ولا تقل اهميتها وفاعليتها عن اشكال القوة
الاخرى .

 نتناول
هنا اهم النظريات السياسية المعاصرة التي ركزة على البعد الثقافي والهوية الثقافية
في مفهومها واعتبرت الثقافة اهم عناصرها .اولا : نظرية صدام الحضارات للمفكر
هنتنغتون الذي طرح نظريته في العقد الاخير من القرن العشرين اذ نلاحظ بعد انهيار
المعسكر الاشتراكي المتمثل بالاتحاد السوفيتي عام 1990بدا الكثير من المفكرين
ينظرون لمستقبل القوة الامريكية بعد الحرب الباردة ومستقبل النظام الدولي . ركز
هنتنغتون على البعد الثقافي في نظريته واعتبره مدعات للتناحر والتصادم في العلاقات
الدولية اذ يرى ان اختلاف الثقافات يؤدي الى الصراع وان المجتمع الدولي يشهد
الكثير من الصدامات لاختلاف ثقافاتهم ويرى ان مستقبل النظام الدولي مبني على
الصراع والصدام بين الحضارة الاسلامية والحضارة الكونفوشيوسية مع الحضارة الغربية
التي تختلف معها في جزئياتها ولابد من تهيئ الحضارة الغربية والولايات المتحدة
الامريكية لتلك الصدامات لكي تحافظ على هيمنتها وامتداد نفوذها ومنع تلك الحضارات
من الصعود والمنافسة وقد اعتمدت نظريته كاستراتيجة لحروب الولايات المتحدة التي
خاضتها بعد الحرب الباردة ضد الدول الاسلامية في ادارتي بيل كلنتون وجورج دبليو
بوش وتصعيد العقوبات ضد الحضارة الكونفوشيوسية المتمثلة بدولة الصين .

اما نظرية القوة الناعمة: التي نظر لها
المفكر جوزيف ناي وقد تزامنت مع نظرية صدام الحضارات واختلفت معها في مفهوم
الثقافة وتحدت في الهدف وهو الحفاظ على موقع الولايات المتحدة الامريكية على
الساحة الدولية والحفاظ على الهيمنة الامريكة لكن باسلوب مغاير خاصة بعد تراجع
القوة العسكرية وتراجع سمعة امريكا نتيجة خوضها الكثير من الحروب العسكرية والفشل
فيها وخاصة حربي افغانستان والعراق التي كلفت امريكا الكثير في الارواح والاموال
والسمعة والثورة المعلوماتية الهائلة التي شهدها العالم  واسباب اخرى لا يسعنا ذكرها هنا جعلت الولايات
المتحدة الامريكية تبحث عن بدائل لقوتها العسكرية وتكون اكثر تاثير على المجتمعات
الاخرى واقل تكلفة وتستعيد من خلالها سمعتها وتحافظ على مكانتها لذا ركزت الى
طروحات جوزيف ناي الخاصة بالقوة الناعمة البديل الامثل والتكميلي للقوة الصلبة
والذي استند على البعد الثقافي واختلاف الهويات كعامل تعاون وتقارب وممكن ان يكون
استقرار للعلاقات الدولية اذ عن طريق الثقافة ممكن الجذب والتاثير في الثقافات
الاخرى اذ ان الثقافة تساهم بشكل اساسي في عملية جذب للاخرين فأنها تعد ذلك المجموع
الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والعادات والفن والحقوق والاخلاق والقانون وجميع
القدرات والمهارات التي يكتسبها الانسان بوصفه عضوا في المجتمع وعندما تحتوي ثقافة
بلد ما او مجتمع ما على قيم عالمية ومصالح يشاركها مع الاخرون فأنه يزيد من
امكانية حصوله على النتائج المرغوبة وهي التاثير في مقبولية الاخر لسياساته او
طروحاته وحتى لثقافاته فالثقافة قد تكون مصدرا للتقارب والتاثير في الاخرين وقد
تحقق الهدف المنشود من توسيع النفوذ بعد تغيير سلوكيات المجتمعات المختلفة ثقافيا
عنها بما يصب بمصلحتها وقد تصل الى تغيير عقائدهم كذلك لذا يطرح في نظريته جوزيف
ناي الى عولمة الثقافة الغربية لتكون مفتاح الاستقرار الدولي .

بقلم… ا.م.د. علي جاسم محمد التميمي

أخبار مشابهة